الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد ...
فإن الإنترنت ثورة كبرى في عالم المعلومات ، وميدان فسيح لامتحان الإيمان
والأخلاق بل والعقول.
فالخير مفتوح الأبواب ، والشر معروض بشتى الأساليب ، وبإمكان الذي يتعامل
مع الإنترنت أن يطلق لسانه بما شاء ، وأن يُسَرِّحَ بصرَه كما يريد، وأن يخط
بيده ما يرغب؛ فلا حسيب عليه، ولا رادع له، ولا مُوْقِف له عند حد .
فإن تسامى واستعلى، ونظر في العاقبة، واستحضر رقابة ربه، وشهوده عليه -
أفلح وأنجح ، واقتحم تلك العقبة .
وإنْ هو أطلق لنفسه العنان، ومال حيث يميل الهوى، وغاب عنه رادع الإيمان
ووازع التقوى - أوشك أن يرتكس في حمأة الرذيلة، ويسقط على أم رأسه في
الحضيض، فلا يكون من رواء ذلك إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفُّل.
ولهذا كان حرياً بالعاقل أن يحسن التعامل مع الإنترنت، وأن لا يْفْرِطَ في
الثقة في نفسه، فيوقعها في الفتنة، ثم يصعب عليه الخلاص منها.
وجديراً به إذا أراد أن يقدم أية مشاركة، أو مداخلة، أو ما جرى مجرى ذلك
أن ينظر في جدوى ما يقدم، وأن يحذر من أذية المؤمنين، وإشاعة الفاحشة
فيهم، وأن ينأى بنفسه عن القيل والقال، واستفزاز المشاعر، وكيل التهم،
وتسليط الناس بعضهم على بعض .
وإذا أراد أن يعقب أو يرد فليكن ذلك بعلم، وعدل، ورحمة، وأدب، وسمو
عبارة .
وإذا أراد أن يشارك فليشارك باسمه الصريح، وإن خشي على نفسه إن صرح
باسمه، أو رغب في إخلاص عمله، فليحذر من كتابة ما لا يجوز ولا يليق،
وليستحضر وقوفه بين يدي الله يوم تبلى السرائر.
وعلى العاقل كذلك أن يحذر خطوات الشيطان؛ فهو متربص ببني آدم، وقاعد
لهم بكل سبيل؛ فهو عدوهم الذي يسعى سعيه في سبيل إغوائهم.
قال ربنا - تبارك وتعالى - في غير موطن في القرآن الكريم: (( وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )).
فالعاقل اللبيب لا يثق بعدوه أبداً، ولا يلقي نفسه في براثن الفتن، ولا
يفرط في الثقة مهما بلغ من العقل، والدين، والعلم .
ومن هنا تجده ينأى عن الفتن، ولا يستشرف لها؛ فإذا تعرضت له أُعِين عليها،
وصاحبه اللطف الإلهي .
وإنْ هو وثق بنفسه، وسعى إلى حتفه بظلفه وُكِلَ إلى نفسه، وزال عنه اللطف.
فهذا يوسف - عليه السلام - لم يتعرض للفتنة، بل هي التي تعرضت له.
ومع ذلك لم يثق بإيمانه، وعلمه، وشرفه المُعْرِق، بل فر من الفتنة،
واستعاذ بالله من شرها، واعترف بأنه إن لم يصرف الله عنه كيد النسوة صبا
إليهن وكان من الجاهلين.
ولما كانت هذه هي حالَه صاحَبَهُ اللطف، وأُعِين على الخلاص من ذلك البلاء
العظيم.
ومما يعين على تعدي هذه البلايا أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً، وعملاً معيناً،
وأن يكون له هدف واضح، ويتعامل من خلال ذلك مع الإنترنت.
أما إذا استرسل مع تصفُّح الأوراق، والانتقال من موقع إلى موقع دون هدف أو
غاية - ضاع وقته، وقلَّت فائدته، وإفادته.
ومما يعين على ذلك - أيضاً - أن ينظر العاقل في العواقب، وأن يقهر نفسه،
ويلجمها بلجام التقوى.
ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على الناصح لنفسه أن
يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.
قال الله - تعالى : (( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (( النساء: 83.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا
جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور
المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم - أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا
بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل
الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون
المصالح وضدها .
فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من
أعدائهم - فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن
مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.
ولهذا قال ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم )) ْ.
أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة .
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي
أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه
أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل
قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه
".
وقال - رحمه الله - في موضع آخر حاثاً على التَّثبُّت، والتدبر، والتأمل
قال: " وفي قوله - تعالى -:
(( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً )) طه:
114 أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل
بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل" .
وقال - رحمه الله -: " قوله - تعالى : ل(( َوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ )) النور: 12 هذا إرشاد
منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما
علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين،
بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه ".
قال ابن حبان - رحمه الله: " أنشدني منصور بن محمد الكريزي …
الـرفقُ أيـمنُ شـيءٍ أنت تَتْبَعُه والـخُرقُ أشأمُ شيء يُقْدِم
الرَّجُلا
وذو الـتثبت مـن حمد إلى ظفر من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ
الزللا
ومما ينبغي للعاقل في هذا الشأن ألا يحرص في إبداء رأيه في كل أمر، وألا
يقول كل ما يعلم بل اللائق به أن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي
رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم
يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، والعرب تقول
في أمثالها: " الخطأ زاد العَجُول " .
بخلاف ما إذا تريث وتأنى؛ فإن ذلك أدعى لصفاء القريحة، وأحرى لأنْ يختمر
الرأي في الذهن، وأخلق بالسلامة من الخطأ.
والعرب تمدح من يتريث، ويتأنى ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: " إنه
لحُوَّلٌ قُلَّب ".
بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان
متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يجهر به، ولا كل ما يعلم يقال
.
بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك،
واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان دأبه في ذلك المشاورة خصوصاً في الأمور
الكبار.
وزن الـكلام إذا نـطقت فإنما يبدي العقولَ أو العيوبَ المنطقُ
قال أحد الحكماء: " إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت
القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس - فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه
مساوياً لغمِّه بإساءته " .
وقال ابن حبان - رحمه الله : " الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد
يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.
والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم
بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة: أمَّ
الندامات " .
وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال : " كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا
الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا
الملول ذا إخوان ".
ولهذا تتابعت نصائح الحكماء على التريث خصوصاً عند إرادة الإقدام على
مواقع الخطر، قال المتنبي ...
الرأي قبل شجاعة الشجعانه و أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرَّةٍ بلغت من العلياء كل مكان
وقال ...
وكل شجاعة في المرء تغني ولا مثل الشجاعة في الحكيم
ومما ينبغي للعاقل: أن يعتدل في طرحه، وأن يحذر من المبالغة، وتضخيم
الأمور؛ لأن الحقيقة تضيع بين التهويل والتهوين.
والعرب تقول في أمثالها: " خير الناس هذا النمط الأوسط " .
وأعظم زاجر وواعظ للمرء، ومعين له على الإفادة من الإنترنت، والسلامة من
شروره وغوائله - لزوم المراقبة لله - عز وجل - واستشعار اطلاعه - تبارك
وتعالى - .
فحري بالعاقل أن يستحضر هذا المعنى جيداً، وأن يتذكر دائماً أن الغيب
عند الله علانية، فكيف يليق بالمرء أن يجعل الله - عز وجل - أهون الناظرين
إليه ؟! وحقيق عليه أن يدرك أنه من أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها، ومن
أضمر شيئاً أظهره الله عليه سواء كان ذلك خيراً أو شراً؛ فالجزاء من جنس
العمل، و (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ )).
وإليك أخي القارئ الكريم هذه الكلماتِ النورانيَة في هذا الشأن من بعض
أئمة السلف - رحمهم الله ورضي عنهم ...
أسأل الله - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى - أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها
وما بطن، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا.
والحمد لله رب العالمين.